الشرّاقة | فصل

اللوحة للفنّان السوريّ نجاح بقاعي

 

أصدرت الكاتبة والإعلاميّة الفلسطينيّة السوريّة سعاد قطناني، كتاب «الشرّاقة: ما قيل وما لم يقل في برنامج يا حرّيّة»، عن دار «موزاييك للدراسات للنشر» 2021.

الكتاب الّذي يقع في 370 صفحة من القطع المتوسّط، ويستعرض قصص وحكايا الناجين من معتقلات الأسد وأقبية التعذيب السوريّة على مدى 50 عامًا، جاء استكمالًا لشهادات وثائقيّة عُرِضَت في برنامج «يا حرّيّة» الّذي بُثّ عبر «تلفزيون سوريا»، وتضمّن 12 حكاية استندت على شهادات كلّ من: فدوى محمود، رياض أولر، مالك داغستاني، محمد برو، تهامة معروف، حسن النيفي، إبراهيم بيرقدار، عمر الشغري، مصطفى خليفة، رزان محمد، باسل هيلم، نظمي محمّد.

تنشر فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة مقدّمة الكتاب، بإذن من دار النشر.

***

 

للحكاية، أو بدقّة أكثر، للرواية كجنس أدبيّ الكثير من التعريفات، وربّما يكون أحد تعريفات الرواية هو الاستغراق في الواقع إلى درجة الخيال، أو هو الخيال عندما يلامس الواقع، أو عندما يتجاوز سحر الكتابة عالم الخفّة، وكسر قواعد المألوف إلى كسر قواعد الكلمات، وأشدّ تعبيراتها عاديّة لتصبح كلّما غاصت في الواقع أشدّ تعبيرًا عن الخيال. عن السحر، عن اللامألوف، ويكون القول ببساطته وسيل حروفه الّذي لا ينشد القصّ بقدر ما ينشد استعادة الثواني اللزجة، هو الأكثر تعبيرًا عن الخيال الّذي يصوغ مكوّناته من أشدّ عناصر الواقع عاديّة.

فكيف نحكي حكايات المعتقلين والمغيّبين، نصف عبراتهم، نفهم نبراتهم ونحترم سكناتهم لنطلق الذاكرة والخيال معًا؟

قد يستطيع المحكيّ اليوميّ عن السجن، واستعادة المعتقل أو المعتقلة اللحظات المعيشة بكلّ تفاصيلها البسيطة، أن يخترق أكثر جدران الواقع صلابة، ويجعلك تغوص في الخيال إلى درجة اللّامعقول؛ فأنت هنا تكتب الرواية وتقصّ الحكاية من دون أن تجهد نفسك في كيفيّة صياغة الكلمات، أو قولبة العبارات لتشكّل المعنى والحدث.

غلاف الكتاب

وإذا كانت الشعريّة والغرائبيّة من أبرز مكوّنات اللغة الروائيّة الحديثة، فإنّ المفارقة بين الحياة والموت، بين السجن والحرّيّة، والتعبير عنها بكلمات تصف اللحظة، وتقف عند حدود الآه المعبّرة عن قساوة البعد وخرمشة الحرمان، والتوق إلى الحرّيّة، تنقلك إلى ما يفوق المعنى الرمزيّ لتلك الشعريّة، وأكثر إيغالًا في الغرائبيّة، حيث يسيل الكلام من شقوق الضوء المتخيّلة، ومن أحلام حبستها سماكة الجدران، لتتخطّى قواعد المنشور العاديّ، وتتصاعد الشاعريّة مع حروف تنتشل الضوء من سواد اللحظة، في محاولة لتفكيك عجينة مشاعر الفقد، والألم، والحنين.

من تلك الطاقة الّتي يبثّها المعتقل، وهو يسترجع ما يُدْمي القلب، ويستلّ الروح من بين الكلمات، يتشكّل فضاء يحاكي شعريّة القول والمعنى، ومن تلك الخلطة السحريّة بين واقع غرائبيّ إلى درجة الخيال، وخيال تكوّن من أكثر لحظات الواقع حقيقيّة، تُصاغ الكلمات، ويُصاغ أدب السجون والمعتقلات، وتولد الحكاية.

عندما يسكن الليل وتهيج الذكريات، تعلو همساتهم لتصبح بكاءً وصراخًا ونواحًا، وعويلًا ينادي أسماءهم في ليالي الوحدة والخوف والنسيان، حتّى الأغنيات “أغنياتهم” صارت تعلو لتنادي الذاكرة “ذاكرتهم”، والذاكرة تستدعي الذاكرة في الليالي الطويلة…

حكايات صاغت أبجديّاتها عتمة السجن حين حكت الجرح، وبكينا…

في كلّ حكاية كنت أرقب السجّان وهو يسعى إلى أن يكسر الروح، فصار الوجع قنديلًا يتوهّج في ثنايا تلك الأرواح الّتي لم تنطفئ…

على كرسيّ الذاكرة، جلسوا معتقلين ومعتقلات، وبدأنا بسرد الحكايات، نغوص في الليل حتّى القاع، وننبش ما التصق بالروح من ألم ووجع وكبرياء، ونحكّ صدأ القضبان بحثًا عمّا التصق بها من أمنيات.

السجون في سوريا أفواه جائعة لا تشبع، تبتلع أحلام السوريّين ومَنْ في حكمهم منذ خمسة عقود وأكثر، وحتّى اليوم لم ينته الهول.

من باب أسود إلى هوّة أكثر سوادًا يمتدّ حبل الألم السوريّ؛ تمتدّ ذاكرة الموت المتناثرة على مدى خمسين عامًا وأكثر، أيّ قدر يقودني من موت إلى موت، ومن حكاية لا تنتهي إلى حكاية تحكّ الموت من جديد!

وجع يقود إلى وجع، وذاكرة تقود إلى ذاكرة تُذْكيها سنين الاستبداد الطويلة، هذه هي حكاية السجون في سوريا، والجلّاد يتناسل جلّادين يقفون بالمرصاد لقتل الأحلام الّتي لم تولد. أسباب الموت كثيرة في السجون السوريّة، قد يكون القهر أحدها، والتعذيب ليس آخرها، فكلّ الرفاق ومَنْ يشاركونك العزل والقصعة هم موتى في طور التنفيذ، أو ربّما وأنت معهم وهم معك، كأنّكم تُجالِسون الموت أو الموتى…

كان الرواة من معتقلين ومعتقلات نجوا من الموت مصادفة، كما نجا بعضهم، أو ربّما عادوا من برزخ الموت، كما عاد من الموت آخرون ليشعلوا الذاكرة عن “أبو الموت” الّذي كان يتربّص بالأنفاس، وكأنّ الأمر كان أشبه بتمرين الروح على الموت والحياة جيئة وذهابًا، كلّ يوم حتّى نجوا!

ربّما يكون بصيص الضوء أو نسلة الضوء القادمة إلى عتمة الزنزانة هو ما جعل الموت مستحيلًا، ولكنّ الحياة عصيّة بين ملامسة الموت تارة والاقتراب من الحياة تارة أخرى، بين حائطين، يسيّجان أفقًا تناهى إلى الصفر.

كيف أفرّ من ذاكرتي “ذاكرتهم”، وإلى أين؟

كيف أهرب من صوتي وصوتهم يدقّ جران القلب، أن اسمعي ولا تشيحي بوجهك، بعضهم أشاح بوجهه عن ألمه كي ينسى، ولست أن من أشاح بوجهه.

بوح الألم صار رعشة في الصوت، تنهيدة طويلة، وقد يكون دمعة استعصت أو استرسلت، أو ربّما ضحكة اختبأ الدمع في جنباتها.

خوف فتّت الروح حين أصبح الوطن خيالًا للقضبان، وانعكاسًا لصورة “الكيبل الرباعيّ” وصراخًا يتلوّى على الكرسيّ الألمانيّ.

سأعيد صياغة الحكايات، أجمع شملها وأشتّتها، ألمّها وأنثرها، لتقصّ حكاية الحقد عند النظام في سوريا الّذي لم ينسَ صوتًا أوجعه ذات يوم، وعاد إلى أدراجه القديمة، ليعيد نسج خيوط الخوف من جديد على مَنْ تجرّأ يومًا ما وقال “لا”.

مع كلّ شهادة ولقاء كنت أسمع ما هو جديد… ما يتجاوز المتخيّل!

هل هو الإبداع الشيطانيّ لانتهاك الروح وهتك النفس البشريّة بوحشيّة لا تُنسى؛ وهل وصولها إلى هذا التصعيد النفسيّ يُدْخِلُها عالم سحريّة القول وحبكة القصّ؟ قد تبدو هذه التساؤلات رفاهيّة حين تقارن الحياة بالموت، والفناء بالبقاء!

الصمت موت، والبوح يفتّت اللحظات ويصوغ منها حالة غرائبيّة تستعصي على المعنى العاديّ أو الموروث في أدب السجون، فكلّ حكاية لها من الخصوصيّة ما يصنع الفرادة، ولكنّ المرأة ظلّت هي الأصعب في حكاية السجون السوريّة، فمن الصعب عليها البوح لاستحكام الألم، حتّى استحال الكلام صمتًا، فكلّ حكاية كنت معهنّ، في الزنزانة أو في غرفة التحقيق، وممرّات الإهانة، صوتهنّ يظلّ يطاردني، وكأنّهنّ استعدن في لحظة القول صمت الجدران، وحياديّة الهواء أمام ما يجرح الروح!

أيّ حزن زرعه هذا السجّان ولم يفت في عضدهنّ، أيّ ألم خلفه هذا السجن من الصعب نسيانه!

في هذه الحكايات، نحن أمام رواية كُتِبَت بلا قلم، بلا أوراق ولا طباعة، حتّى بلا مؤلّف استخدم مخياله وموهبته فيصوغ ذلك التسلسل الزمنيّ المعجون بشعريّة اللغة وتأويل المعنى، بل نحن  أمام روح تفرد نفسها، تعرّي اللحظات لحمًا ودمًا، لتتقلّص اللغة وتراكيبها أمام هول الحدث، فالصمت لغة، والآه لغة، والدموع لغة، واستدعاء اللحظات الّتي تعيد الموت إلى راهنيّته، والتعذيب إلى صرخاته الحيوانيّة، هو أيضًا لغة أخرى، ويصبح المحكيّ محمّلًا بصورة الواقع وليس المتخيّلة، محمّلًا بالصوت البكر، بهمسات العيون، بالخوف تارة والأمل تارة أخرى، محمّلًا أو محمولًا باختلاجات الوجه، ورجفة الشفاه الّتي تشي بما وراء الكلمات، وتبثّ الروح في الحكايا، وربّما تجعلها تجلّيًا من تجلّيات الرواية أو أدب السجون والمعتقلات.

 


سعاد قطناني

 

 

كاتبة وإعلاميّة فلسطينيّة من مواليد اللاذقيّة. عملت في إعداد وتقديم العديد من البرامج السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، كما عملت في عدّة مؤسّسات إعلاميّة من بينها «بي بي سي عربيّة» و«تلفزيون سوريا». صدر لها ثلاثة كُتب، «BBC  انكسار الصورة» (2018)، «عشر عجاف» (2021)، و«الشرّاقة» (2021).